«من اراد رؤية متحف فليصطحب معه الرواية»، هكذا لخص أورهان باموق غرضه من كتابة رائعته «متحف البراءة» التي تعكس لنا روعة فن السرد الروائي في جموحه وجنونه، وهي رواية «تجريدية» تحتفي بالأشياء والتفاصيل الصغيرة التي تكمن وراء العلاقات البشرية ولا سيما العاطفية. وقد صدرت أخيراً الترجمة العربية لهذه الرواية عن دار الشروق، وهي آخر ما ترجمه الراحل عبد القادر عبد اللي الذي أخذ قراء العربية لعالم باموق الثري، بمهارة تجعلنا ننسى أنها كتبت بلغة غير العربية.
تحكي الرواية الضخمة الواقعة في 611 صفحة، قصة حب كلاسيكية على غرار أفلام «الأبيض والأسود»، بين كمال المنتمي لأسرة أرستقراطية وفسون قريبته التي تنتمي للفرع الفقير من العائلة الكبيرة.
والرواية في الحقيقة لا تدور عن متحف، بل هي عن «حالة من العشق»؛ عشق المحبوبة، وعشق المدينة، وعشق الأشياء التي تربطنا باللحظات الجميلة في حياتنا. منذ الصفحة الأولى يأسرك باموق بأسلوبه السهل الممتنع باستخدامه تقنية البطل الراوي، بل ويحول نفسه واحدًا من أبطال الرواية. وفي كثير من الأحيان ترى أن باموق هو البطل عاشق فسون، وفي أحيان أخرى تشعر بأنه الراوي: «وهكذا اتصلت بالسيد أورهان باموق ليروي عن لساني وبموافقتي… فكرت به لأنه من إحدى عائلات نيشان طاش التي فقدت ثروتها، ويمكنه أن يدرك خلفية قصتي بشكل جيد. وسمعت أنه يحب رواية القصص بشكل جاد وشغوف بعمله»، ص 580. ويتحدث باموق نفسه عن روايته داخل الرواية تحت عنوان «حول العشق والمتحف»: «فكرت برواية متحف البراءة اعتباراً من أواسط التسعينات، أي أنني خططت لكتابة رواية حب، وفتح متحف أعرض فيه الأشياء التي تذكر في الرواية؛ (قرط أذن) فسون الذي أضاعته في الفصل الأول من الكتاب، وملاقط شعرها وأثوابها بما فيها فستانها الربيعي، وحذاءها الأصفر، أو مسطرة خشبية محلية الصنع حافتها رقيقة أهديتها إياها في لقائنا السابع… وهي أولى قطع متحفنا، ومجموعة مملحات عائلة كسكين، والأفلام التي شاهدناها صيف عام 1976… وانتهاء بغرفة النوم حيث روى البطل قصته على الروائي».
وبالفعل افتتح باموق متحف البراءة عام 2012 ليكون مزاراً لشخصيات روايته الوهمية. ويقع المتحف على الضفة الأوروبية للبوسفور ويضم 83 واجهة «فاترينة عرض زجاجية»، تجسد كل منها فصلاً من فصول روايته «متحف البراءة». ويروي باموق عن نفسه أيضًا داخل الرواية: «سوق الأدوات المستعملة في أزقة تشوقور جمعة تطورت كثيراً أثناء كتابة الرواية… كان هناك كثير من الأشياء بدءاً من الطاولات القديمة إلى منفضات السجائر، ومن الشوكات والسكاكين… المحلات التي تبيع المجلات والكتب والخرائط والصور القديمة أججت رغبتي في وضع ما أراه ضمن إطار، والاحتفاظ به إلى مالا نهاية…»، وبالفعل اشترى باموق بيتاً يمكن أن يتحول لمتحف. يقول: «العالم يعج بالأشياء التي يمكن أن توضع في روايتي ومتحفي».
في الفصل الثامن «أول مياه غازية بالفواكه تركية»، ارتفع باموق، كما أرى، بـ«أشياء» الرواية ليخلق لها كياناً متكاملاً، مذكرًا إيانا بمفهوم «التشيؤ» كما صاغه عالم الاجتماع المجري جورج لوكاش (1885 – 1971)، حول أنسنة الأشياء. وكان لوكاتش يؤمن بأن الفكر البرجوازي مقتصر بالضرورة على هذه المظاهر المتشيئة، كما يتضح في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي للبرجوازية، وهو ما تدور حوله الرواية.
«كانت ببالي كلمات فسون قبل يوم، وأغراض طفولتها، وقطع والدتي الأثرية، والساعات القديمة، والدراجة ذات العجلات الثلاث، والضوء الخافت الغريب في الشقة، ورائحة الغبار والقدم، والبقاء على انفراد»، ص 40.
ينهي باموق روايته نهاية مأساوية، حيث تنتهي قصة الحب بموت البطلة إثر حادث سيارة، فقد كانت «تقود السيارة بسرعة مائة وخمسة كيلومترات في الساعة، وتسلم نفسها إلى شجرة الدلب التي عمرها مائة وخمسة أعوام كأنها تعي ما تفعله جيداً. فهمت أن هذه نهاية حياتنا. صدمت سيارة والدي الشيفروليه 56 التي بقيت عنده ربع قرن بأقصى سرعتها بشجرة الدلب التي على يسار الطريق»، ص 554و555.
في الجزء الأخير من الرواية، يستكمل البطل سرد قصته بعد الحادث الذي أودى بحبيبته ومعاناته التي استمرت 20 عاماً، ومحاولته الحفاظ على ذكراها وكل ما يذكره بها، ومن هنا جاءت له فكرة المتحف الذي يجمع كل الهدايا التي أهداها لفسون ورسائل الغرام. وكانت زيارته لمتاحف فرنسا قد أججت رغبته في أن يكون متحف البراءة متحفاً يخلد قصته وقصة فسون وأن تكون درساً للجميع على غرار متحف إديث بياف ومتحف جاكومارت أندريه: «أحلم بأنني أستطيع أن أقص قصتي بواسطة الأشياء»، ص 563.
ويكشف باموق في نهاية الرواية عن قصة المتحف وكيف ولدت بعدما روى له البطل قصة حبه في 3 ساعات، ليقول له باموق: «أنا أعرف فسون. وأذكرها من حفل خطوبتكم في الهيلتون. حزنت كثيراً على وفاتها». وبعد حوار مطول بينه وبين كمال، يقول له الأخير: «أنهوا هذه الرواية، وليأتِ الناس إلى متحفي حاملين كتاباً في أثناء تجوالهم على الخزائن الزجاجية واحدة تلو الأخرى لكي يشعروا بعشقي لفسون عن قرب، وأخرج أنا من القسم الملحق بالمنامة وأدخل بينهم» ص 582.
ثم يتحدث كمال بطل الرواية بعد ذلك لنفسه منتقداً أسلوب باموق في كتابة الرواية بصيغة «أنا» وتحدثه بلسان البطل: «لكنني أتوتر من وضع السيد أورهان نفسه مكاني، وسماع صوته بدلاً من صوتي».
يؤخذ على باموق الإسهاب في الحوارات بين البطل ونفسه تارة وكتابته حتى عن كل نظرة وكل لفتة يقوم بها أبطاله وكأنه يرسم صورهم بالحركة البطيئة. الحوارات جاءت مطولة أيضًا بين كمال وفسون، وقد أثرت على إيقاع الرواية بشكل كبير.
في الخاتمة يوضح باموق لقرائه وجه الشبه بينه وبين كمال بطل الرواية محاولاً الإجابة عن سؤالهم: هل أنت كمال؟ قائلاً: «نعم أنا أيضًا قضيت طفولتي في الفترة التي تناولتها الرواية بين 1950 و1990 وسط برجوازيي نيشان طاش. عائلة كمال وأصدقاؤه يشبهون عائلتي وأصدقائي، والأمكنة التي يعيش فيها ويذهب إليها، هي الأمكنة التي عشت فيها، وذهبت إليها. وفيما بعد، كمال وأنا نبذنا من طبقتنا ومحيطنا… هو بسبب عشقه لفسون، وأنا بسبب حبي للأدب ووضعي السياسي. وكلانا ليس نادماً»
لزيارة العنوان اضغط هنا